الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
فإذا استأمن الحربي إلى العسكر من غير حصن ولا قلعة ولا مطمورة فقال: أستأمن لأخرج إليكم ثم أرجع إلى أهلي فآتيكم بالتجارات فذهب ثم جاء بتجارة أو سلاح أو غير ذلك وقال: هذا مالي. فالقول قوله وهو آمن على ما جاء به لأنه استأمن في حال لم يصر مقهوراً فهو بمنزلة من استأمن ليخرج إلى دار الإسلام. وقد بينا أن هناك يدخل ماله في أمانه تبعاً. وإن لم يذكر فكذلك الذي استأمن إلى العسكر إذا لم يكن محصوراً وقوله في المال مقبول اعتبار أن اليد له. فالظاهر شاهد له. وكذلك لو جاء بامرأة فقال: هذه امرأتي أو ابنتي أو أختي أو جاء بصبيان فقال: هؤلاء ولدي فهو مصدق على ذلك. وهم آمنون معه بمنزلة من استأمن إلى دار الإسلام. وقد ذكرنا هناك أنه يتبعه عياله في الأمان كما يتبعه ماله. ومن كلبه منهم فيما قال فهو فيء لإقراره على نفسه بالرق حين كلبه في سبب التبعية في الأمان وإن صدقوه ثم رجع المستأمن فقال: لا قرابة بيني وبينهم وكذبوه فهم آمنون لأنهم بالتصادق استفادوا الأمان في الابتداء فلا يبطل ذلك بقول المستأمن لأن إقراره عليهم بالرق أو بما يبطل أمانهم مردود وإن اتهم الأمير أحداً منهم حلفه فإن نكل أخذ مملوكاً ولكن لا يقتل بنكوله. ولو جاء معه رجال فقال: هؤلاء أولادي وإخواني فهم فيء أجمعون. لما بينا أن المقاتلة لا يتبعونه في الأمان لو استأمن إلى دار الإسلام فكذلك إذا استأمن إلى العسكر ولم يستأمن لهم نصاً ولا استأمنوا لأنفسهم. ولو جاء بمتاع أو رقيق فقال: هذا مالي أو بامرأة فقال: هذه عيالي. فعلم أنه جاء بذلك من قرية أو مطمورة قريبة من العسكر فإن كان لم يعلم بها أهل العسكر فذلك كله سالم سواء كانت بحيث لو علموا بها كانوا قاهرين لأهلها أو لم يكونوا لأن معنى القهر لا يتحقق إذا لم يعلموا بهم والقريب كالبعيد في حق من لا يعلم به. ألا ترى أن من تيمم والماء قريب منه وهو لا يعلم به صح تيممه بمنزلة ما لو كان الماء بعيداً وكذلك لو كان علم بهم إلا أنهم لم يقاتلوهم ولم يتعرضوا لهم وهم ممتنعون من المسلمين لأن أهل المنعة لا يصيرون مقهورين بمجرد العلم بهم ما لم يتعرض لهم بالقتال. فإنما جاء بذلك من موضع لم يتناوله قهر المسلمين فيكون سالماً له. وإن جاء به من قرية قريبة من العسكر ليست لهم منعة وقد علم أهل العسكر بها وبما فيها أو لم يعلموا بما فيها إلا أنهم لو دخلوها علموا ذلك فليس له شيء مما جاء به لأن العسكر دخلوا دار الحرب على قصد قهر المشركين فإذا نزلوا بساحة قوم غير ممتنعين منهم وعلموا بحالهم كانوا قاهرين لهم. ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرب من خيبر قال: " الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ". وإذا ثبت القهر بهذا الطريق عرفنا به إنما جاء بهذا مما كان في يد المسلمين وتحت قهرهم ولا يسلم له شيء منه بمنزلة المحصور الذي يستأمن لينزل أو ليفتح الباب. وإن كان إخرجه من مطمورة في قرية قد عرف المسلمون القرية ولكنهم لم يعلموا المطمورة فجميع ذلك سالم لأن ما في المطمورة لا يتناوله قهوهم إذا لم يعلموا بها دخلوا القرية أو لم يدخلوها فإنهم عدموا آلة الوصول إليها. وإن جاء بذلك من حصن قد قاتلهم المسلمون وهم مقيمون عليه ليفتحوه فجميع ما جاء فيه فيء لأن قهر المسلمين يتناول ما في الحصن بدليل أنه لو نزل رجل من أهل الحصن مستأمناً لم يسلم شيء مما جاء به مع نفسه. فأي فرق بين أن يستأمن وهو خارج وبين أن يستأمن ليخرج في حق المال الذي يخرجه من الحصن. فكما أن هناك لا يسلم له شيء في المال والعيال بدون التصريح بالاستئمان منه له كذلك هذا. والله أعلم.
وإذا استأمن الحربي إلى العسكر ليدلهم على عورات المشركين ولقي المسلمون العدو ففقدوه. فلما هزموهم وجدوه فيهم وقال: أسروني من صف المسلمين ولا يعرف كذبه من صدقه فإنه ينظر في حاله فإن كانت هيئته كهيئة المأسور بأن كان مغلولاً أو مربوطاً أو مضروباً لم يعرض له وكان عندنا على أمانه الأول لأنه عند تعذر الوقوف على حقيقة الحال يصار إلى تحكيم الظاهر وإلى العلامة والزي. فإذا تبين بذلك أنه كان مأسوراً فيهم قلنا: أسرهم إياه لا يبطل أمانه كما لو أسروا ذمياً لا يبطل ذلك عهده ولكنه يستحلف على ما يدعي من ذلك لأن بما شاهدناه من دلالة الحال يصير الظاهر شاهداً له ولكن لا تنتفي تهمة الكذب عن كلامه فالقول قوله مع يمينه. وإن لم يكن عليه شيء من علامات الأسر فهو فيء وللإمام أن يقتله لأن الظاهر أنه فارق عسكرنا باختياره والتحق بمنعة أهل الحرب فانتهى به الأمان الذي بيننا وبينه وحال كحال غيره من أهل الحرب. وإن أشكل أمره بأن دل بعض العلامات على أنه أتاهم اختياراً وبعض العلامات على أنهم أسروه فهو فيء. ولكن لا ينبغي للإمام أن يقتله لأن عند تعارض العلامات يحكم الموضع الذي وجد فيه وإنما وجد في منعة أهل الحرب وفي موضع إباحة الاسترقاق. إلا أن تعارض العلامات يمكن شبهة في أمره فمنع القتل إذا القتل مما يندرئ بالشبهات. فإن قيل: عند تعارض العلامات لماذا لا يتمسك بالأصل وهو الأمان الذي كان ثابتاً له منا قلنا: التمسك بالأصل المعلوم هو لانعدام الدليل المزيل له لا لوجود الدليل المبقي. وقد ظهر الدليل المزيل لأمانه وهو كونه في منعة أهل الحرب. فكان ينبغي على هذا القياس أن يكون فيئاً على كل حال إلا أنا تركنا هذا القياس فيما إذا ظهر أنه كان أسيراً فيهم بدليل فإذا انعدم ذلك أو جاء ما عارضه وجب الاعتماد على ما هو معلوم في الحال وهو أنه حربي وجد في منعتهم. قال: ولو جالت خيل المسلمين جولة ثم إنهم عطفوا فهزموهم فوجدوه في أيديهم فهذا والأول سواء. إذا علم أنه كان في منعتهم قبل هزيمتهم وإن هزمهم المسلمون فوجدوه لا يدرون أكان معهم أو مع أهل الحرب إلا أنهم كانوا فقدوه. فلما وجدوه قال: لم أبرح عسكركم. فإن كان أهل العسكر قليلاً وأحاط العلم بأنه لا يخفى مثله إن كان في العسكر فهو فيء لأنا تيقنا بأنه كاذب محتال وأنا حين فقدناه قد التحق بمنعة أهل الحرب فانتهى حكم الأمان وإن كان العسكر عظيماً قد يخفى مثله فيه ولا يدرى أصدق أم كذب فهو على أمانه لأن الدليل المزيل للأصل المعلوم لم يظهر هنا وهو وصوله إلى منعة المشركين ولكنا ندعي ذلك عليه وهو منكر فالقول قوله مع يمينه. وإن كان قليلاً ففقدوه فلما هزموا العدو إذا هم به لا يدرون أكان مع العدو أو كان معهم. فسئل عن ذلك فقال: ذهبت أتعلف العلف أو ضللت الطريق ولم ألحق بالعدو. ففي القياس هو فيء لأنا علمنا مفارقته العسكر في دار الحرب ودار الحرب موضع أهل الحرب فكان ذلك بمنزلة وصوله إلى منعتهم في حكم انتهاء الأمان. ولكنه استحسن وقال: هو مصدق مع يمينه لأنه أخبر بخبر محتمل. فإنه لم يجد بداً من أن يخرج من المعسكر ليقضي حاجته أو ليأتي بالعلف. وربما يضل الطريق عند الخوف وكثرة الزحام كما أخبر به. وقد عرفنا ثبوت الأمان له. فيجب التمسك بذلك الأصل ما لم يظهر مزيله بدليل. والله أعلم. M0ا المراوضة على الأمان بالجعل وغيره قال: ولو أن عسكر المسلمين أتوا حصناً من حصون أهل الحرب فناهضوه وقال لهم أهل الحصن: يخرج عشرة منا يعاملونكم على الأمان وقد رضينا بما صنعوا. فلما خرج العشرة سألوا المسلمين أن يسلموا السبي ويأخذوا ما سوى ذلك. فأبى المسلمون ذلك. وصالحهم العشرة على أن يؤمنوهم خاصة وعيالاتهم. فتراضوا على ذلك. ثم دخلوا الحصن وفتحوا الباب. فدخل المسلمون يسبون. فقال أهل الحصن: أخبرنا العشرة بأنكم أمنتم السبي لم يلتفت إلى كلامهم سواء صدقهم العشرة في ذلك أو كذبوهم. وجميع ما في الحصن فيء سوى العشرة مع عيالاتهم لأنه لم يؤخذ من المسلمين أمان لغير العشرة صريحاً ولا دلالة. وأهل الحصن لا يدخلون في أمان العشرة تبعاً فإن في أمان المحصور لا يدخل من كان تبعاً له حقيقة فكيف يدخل من لم يكن تبعاً والعشرة وإن أخبروهم بأمان السبي كما زعموا فقد كذبوا في ذلك. والمشركون إنما أتوا من قبل أنفسهم حين نصبوا الخائنين للسفارة بيننا وبينهم وصاروا مغترين لا مغرورين من جهة المسلمين. وعلى هذا لو شهد قوم من المسلمين كانوا في الحصن أن العشرة أخبروهم بذلك لم تنفعهم هذه الشهادة. لما بينا فإن الثابت بالبينة لا يكون أقوى من الثابت بالمعاينة. ولو عاينا أن العشرة أخبروهم بذلك حين دخلوا الحصن لم يمنعنا ذلك من استرقاقهم لأنه لا أمان لهم منا. ولو كان أهل الحصن أخذوا الأمان من المسلمين على ما في حصونهم حتى يرجع إليهم العشرة بصلح أو غير صلح فهذا والأول سوءا لأن ذلك الأمان قد انتهى برجوع العشرة إليهم فكأنه لم يكن أصلاً. ولو كانوا أخذوا الأمان حتى ترجع إليهم العشرة فيخبروهم بما جرى على وجهه والمسألة بحالها فقال العشرة: قد أخبرناهم بذلك. وقال أهل الحصن: لم تخبرونا بشيء من ذلك. فهم على أمانهم لأن العشرة يدعون انتهاء الأمان الذي كان منا لأهل الحصن وأهل الحصن منكرون لذلك فالقول قولهم ولا شهادة للعشرة على ذلك. لأنهم يشهدون على فعل أنفسهم ولأنهم يشهدون على إجازة ما فعلوا فإنهم يقولون: قد أخبرنا أهل الحصن ورضوا بما فعلنا ولا شهادة للمرء على إجازة ما باشره. ولو شهد على مقالتهم قوم مسلمون أو من أهل الذمة كانوا في الحصن قبلت الشهادة وكانوا فيئاً لأن شهادتهم حجة على أهل الحصن. فكان الثابت بشهادتهم كالثابت بإقرار أهل الحصن. فإن كان الشهود من المسلمين على ذلك فساقاً رد السبي إلى الحصن وأعيد الأمر كما كان ثم ينبذ إليهم ويقاتلون لأن الأمر بالتوقف في خبر الفاسق منصوص عليه ولا فرق بين أن يكون المشهود عليه مسلماً أو حربياً في أنه ليس للفاسق عليه شهادة مقبولة. وما لم يثبت إخبار العشرة إياهم بالأمر على وجهه كانوا آمنين فلا يحل سبيهم. وإن كانوا حين دخل المسلمون عليهم كسر حصنهم فصاروا لا منعة لهم فعليهم أن يلحقوهم بمأمنهم لأنهم في أمان منا. فلا يجوز النبذ إليهم حتى نبلغهم مأمنهم. ولو قالت العشرة: ما أخبرناهم بالصلح على وجهه ولكنا أخبرناهم أنكم أمنتم السبي. فهذا والأول سواء ولا يجوز التعرض بشيء مما في الحصن لأنهم كانوا في أمان منا إلى غاية. وهو أن يخبرهم العشرة بالأمر على وجهه ولم يفعلوا. فإن قال المسلمون: فنحن نسلم لكم السبي كما أخبركم به العشرة ونأخذ ما سواه من المتاع لأنكم رضيتم بذلك وفتحتم الحصن عليه. وقال أهل الحصن: لا نرضى بهذا الآن. فذلك لأهل الحصن لأن الأمان منا يتناول جميع ما في الحصن فهم على ذلك الأمان وإن رضوا بغيره ما ثم ينبذ إليهم أو ينتهي بوجود غايته وغايته الإخبار بالأمر على وجهه. فإذا لم يوجد كان علينا أن نعيدهم إلى منعتهم كما كانوا أو نبلغهم مأمنهم لم ننبذ إليهم ولو بعث الأمير مع العشرة رجلاً من المسلمين. فقال الرجل المسلم: قد أخبرهم العشرة كيف كان الصلح. وأنكر ذلك أهل الحصن فالقول قولهم لأن شهادة الواحد في الإلزام لا تكون حجة على المستأمنين كما لا تكون حجة على المسلمين. وإن كان بعث معهم رجلين مسلمين أو أكثر فشهدا بذلك كانوا فيئاً لأن شهادة المسلمين حجة تامة فيثبت بشهادتهما ما يوجب انتهاء الأمان به. فإن قيل: كيف تقبل شهادتهما وهما يجران بها نفعاً إلى نفسهما لأن لهما نصيباً في الغنيمة قلنا: نعم. لكن الحق في الغنيمة لا يتأكد قبل الإحراز. ولهذا من مات منهم لا يورث نصيبه ومثل هذا الحق الضعيف لا يورث تهمة مانعة من قبول الشهادة. ألا ترى أن مسلمين من الجند لو شهدا على ذمي أنه سرق من الغنيمة شيئاً بعينة أو شهد عليه أنه سرق شيئاً من مال بيت المال. كانت شهادتهما مقبولة ولا ينظر إلى ما لهم فيه من المنفعة بناء على الشركة العامة. وإن كان الرجلان ممن لم تقبل شهادتهما بين المسلمين فالقوم على أمانهم لأن ما ينتهي به الأمان لم يثبت بهذه الشهادة فإن ثبوته بناء على قبول شهادتهما. ولو كان بعث رجلين من أهل الذمة مع العشرة وهما ممن تقبل شهادتهما على أهل الذمة فهم فيء أيضاً لأنهم يشهدون على المستأمنين ولأهل الذمة شهادة مقبولة على المستأمنين فيما يندرئ بالشبهات وفيما لا يندرئ بالشبهات فكانا بمنزلة المسلمين في ذلك. فإن شهد على ذلك رجل وامرأتان جازت الشهادة وكانوا فيئاً إلا أنهم لا يقتلون لأن شهادة الرجال مع النساء حجة فيما يثبت مع الشبهات وليس بحجة فيما يندرئ بالشبهات. لتمكن شبهة الضلال والنسيان في شهادتهن. ولو كان بعث مع العشرة رجلين من أهل الحرب مستأمنين فشهدا عليهم فإن كان من أهل تلك الدار جازت شهادتهما وإن كان من غير تلك الدار بأن كانا من الترك وأهل الحصن نصارى لم تقبل شهادتهما لتباين الدارين. فإن ذلك يقطع ولاية الشهادة كما يقطع ولاية التوارث. وهذا لأن دار الحرب دار قهر ليس بدار حكم. فباعتبار اختلاف المنعة يتباين الدار حتى لا تقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا من أهل دور مختلفة وإن كانوا مجتمعين في دارنا بخلاف أهل الذمة فإنهم صاروا من أهل دارنا ودار الإسلام دار حكم فإذا جمعهم حكم واحد قبلت شهادة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم كما تقبل شهادة المسلمين بعضهم على بعض وإن اختلفت مذاهبهم. وكل شيء رددت فيه أهل الحصن إلى مأمنهم فإني أرد فيه العشرة إلى مأمنهم أيضاً لأن الأمان تناولهم يقيناً فلا يجوز التعرض لهم قبل النبذ إليهم. ولو شهد قوم من أهل الحصن سوى العشرة ممن يعدل في دينه أن العشرة أخبروهم بالصلح لم تجز شهادتهم لأنهم صاروا عبيداً للمسلمين بزعمهم. فإن الشهود يزعمون أن الأمان قد انتهى بإخبار العشرة إياهم بالأمر على وجهه فهم أرقاء أو حالهم متردد بين الرق والحرية فيكونون بمنزلة المكاتبين لا شهادة لهم. وإذا لم تقبل شهادتهم فأهل الحصن آمنون غير العشرة وأموالهم ورقيقهم. هكذا وقع في بعض النسخ وهو غلط والصحيح: غير الشهود على العشرة فإنه لا إشكال في أمان العشرة فكيف يستثنيهم من جملة الآمنين ولكن هؤلاء الذين شهدوا هم مقرون بانتهاء الأمان وإقرارهم صحيح على أنفسهم فكانوا فيئاً مع أموالهم ورقيقهم ومن صدقهم من عيالهم وأولادهم الصغار أيضاً لأنهم في حجر الأمهات وعند التكذيب هن آمنات فكذلك أولادهن. ومن لم يكن له أم من أولادهم الصغار فهم مصدقون عليهم. وهذا لأنهم لما صاروا أرقاء والأمهات حرائر فباعتبار بقاء الأمان لهن كان المعتبر في حق الأولاد حجر الأمهات. ومن لم يكن له أم فلا بد من اعتبار حجر الأب في حقه فيصير رقيقاً معه ولا يصدقون على الكبار من أولادهم إلا أن يصدقوهم فحينئذ يكونون أرقاء بإقرارهم. قال: ولو كتب الأمير كتاباً إلى أمير الحصن يخبره بما جرى وختمه بخاتمه وبعثه على يدي رسول من قبله مع العشرة فلما فتح الحصن قال أميرهم: لم يأت بالكتاب ولم يدفعه إلي الرسول وقال الرسول: قد دفعته إليه وقرأه بمحضر مني فأهل الحصن على أمانهم الأول لأن الرسول يدعي انتهاء الأمان بإيصال الكتاب إليه وهو منكر لذلك فالقول قول المنكر. وهذا لأن الذي يتعلق بانتهاء الأمان إباحة قتلهم واسترقاقهم وهذا مما يندرئ بالشبهات فخبر الواحد فيه لا يكون حجة تامة وإن كان مسلماً. فن كان بعث معه رجلين مسلمين فشهدا بأنه قرأ عليه بمحضر منهما حتى سمعه وعلم ما فيه فهم فيء أجمعون لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم وشهادة المسلمين حجة تامة. ولو شهدا أنه دفع الكتاب إليه فقرأه عليه بالعربية وترجم له الترجمان ولكنهما لا يدريان ما قاله الترجمان فالقياس فيه أنهم آمنون حتى نعلم أنه قد علم ما في الكتاب لأنا نعرف أنه لا يعرف العربية والشهود لم يعرفوا ما قال له الترجمان فلا يثبت علمه بما في الكتاب بهذا القدر وما لم يصر ذلك معلوماً له لا ينتهي الأمان ولا تنتفي الشبهة. فلا يجوز لهم الإقدام على القتل والسبي ولكنه استحسن. فقال: فيء لأنه ليس في وسع المسلمين فوق ذلك إذا أرادوا النبذ إليهم. وإن خان الترجمان فذكر لهم غير ما في الكتاب فإنما أتوا من قبل أنفسهم حين اتخذوا ترجماناً هو خائن. وما لا يمكن الوقوف عليه حقيقة لا يجوز تعلق الحكم به وإنما يعلق بالسبب الظاهر وقد تم ذلك كما شهد الشهود. ولو أن رسل المؤمنين لم يحضروا مجلس أميرهم إلا أن الأمير رد جواب الكتاب بكتاب مختوم ثم فتح الحصن فجحد الأمير الكتاب فقال: ما وصل إلي كتاب ولا أخبرني العشرة بما جرى افتعل ذلك مفتعل على لسان أميرهم. وانتهاء الأمان لا يثبت مبيحاً للقتل والاستغنام بمثل هذا الكتاب المفتعل. وكذلك إن كان هذا الكتاب من ملكهم الأعظم ثم أنكره بعد ما وقع الاستيلاء على مملكته. فإنه لا يبطل به الأمان الذي كان بين المسلمين وبينهم. لما بينا أن الكتاب محتمل قد يفتعل على لسان الأعظم كما يفتعل على لسان من هو دونه. ولا يحل إراقة الدماء والاسترقاق باعتبار هذا الكتاب الذي لا يدرون أحق هو أم باطل. فإن قيل: أليس أن كتاب القاضي إلى القاضي يجعل حجة في الأحكام وهذا الاحتمال فيه موجود. قلنا: أما فيما يندرئ بالشبهات لا يجعل حجة وفيما يثبت مع الشبهات في القياس لا يكون حجة أيضاً. وإنما جعل حجة فيما يثبت مع الشبهات استحساناً لتحقق الحاجة فيه بشرائط يقع بها الأمن عن الافتعال ظاهراً وهو الختم وشهادة الشهود عليه وعلى ما فيه ومثل ذلك لا يوجد في كتاب كبيرهم إلينا. والله أعلم.
قال: فإذا أرسل أمير العسكر رسولاً إلى أمير حصن في حاجة له فذهب الرسول وهو مسلم. فلما بلغ الرسالة قال: إنه أرسل على لساني إليك الأمان لك ولأهل مملكتك فافتح الباب. وأتاه بكتاب افتعله على لسان الأمير أو قال ذلك قولاً وحضر المقالة ناس من المسلمين. فلما فتح الباب دخل المسلمون وجعلوا يسبون. فقال أمير الحصن: إن رسولكم أخبرنا أن أميركم أمننا وشهد أولئك المسلمون على مقالتهم. فالقوم آمنون يرد عليهم ما أخذ منهم لأن عبارة الرسول كعبارة المرسل فكان أمير العسكر أمنهم. فإن قيل: عبارة الرسول كعبارة المرسل فيما جعله رسولاً فيه فأما فيما افتعله فلا. قلنا: هذا التمييز غير معتبر في حق المبعوث إليه لأنه لا طريق له إلى ذلك. وإنما الذي في وسعه الاعتماد على ما يخبر به الرسول فلهذا يجعل ما أخبر به كأنه حق بعد ما ثبت أنه رسول. وهذا لأن الواجب على المرسل أن يختار لرسالته الأمين دون الخائن والصادق دون الكاذب. فلو لم يجعل ما يخبر الرسول به كأنه حق من حقهم أدى ذلك إلى الغرور وذلك حرام. أرأيت لو ناداهم الأمير: إن هذا رسولي في كل ما يجري بيني وبينكم. ثم أتاهم بهذا لم يكن القوم آمنين. ومن تأمل قوله تعالى: وقد تقول عليه غيره بعض الأقاويل نحو مسيلمة ونظرائه ممن ادعى الرسالة ولم يصبهم في الدنيا. فعرفنا أن حال الرسل فيما يخبرون به عمن أرسلهم ولا يكون كحال غيرهم وكذلك إن كان الرسول ذمياً أو حربياً مستأمناً لأن ثبوت هذا الأمان من جهة أمير العسكر لا من جهة الرسول. فإن الرسول في حصنهم غير ممتنع منهم. فلا يصح أمانه من جهة نفسه. ثم هذا التقصير كان من جهة الأمير حين اختار لرسالته كافراً خائناً وهو منهي عن ذلك. ألا ترى إلى ما روي أن عمر رضي الله عنه قال لأبي موسى رضي الله عنه: مر كاتبك فليدخل المسجد وليقرأ هذا الكتاب. فقال: إن كاتبي لا يدخل المسجد. قال: ولم أجنب هو قال: لا ولكنه نصراني. فقال: سبحان الله اتخذت بطانة من دون المؤمنين أما سمعت قوله تعالى : ولكن من وقع سهمه منهم صار حراً لإقراره أنه آمن ولا يترك ليرجع إلى دار الحرب لأن ذلك من حق المسلمين. وإن شهد على هذه المقالة قوم من أهل الذمة لا تقبل شهادتهم لأنها تقوم على المسلمين. وإن كان الذي أتاهم بهذه الرسالة رجل ليس برسول ولكنه افتعل كتاباً فيه أمانهم فدخل به إليهم أو قال لهم ذلك قولاً وقال: إني رسول الأمير أو رسل المسلمين والمسألة بحالها فهم فيء كلهم. وللإمام أن يقتل مقاتلتهم لأنه لا يمكن إثبات الأمان لهم من جهته. فإنه غير ممتنع منهم حين قال لهم ذلك بل هو بمنزلة الأسير فيهم. وأمان الأسير لا ينفذ على المسلمين. فلا يمكن تصحيحه من جهة أمير العسكر لأنه ما أرسله حتى تكون عبارته قائمة مقام عبارة الأمير. وهذا لأن معنى الغرور لا يتحقق هنا لو أبطلنا هذه المقالة وإنما جاء التقصير من جهتهم حين اعتمدوا قول مجهول غير معروف بالرسالة ولا كان رسولاً إليهم من جهة الأمير في وقت من الأوقات والأمير لا يمكنه أن يتحرر عن هذا لأنه لا يعرف المفتعل لمنعه من الافتعال. وكما أنه يسقط عنهم الوقوف على ما ليس في وسعهم يسقط عن الإمام التحرز عما ليس في وسعه. ولو قال لهم هذا الذي لم يكن رسولاً هذه المقالة وهو في عسكر المسلمين ناداهم ففتحوا الباب كانوا آمنين حتى ينبذ إليهم لأنه يجعل هذه المقالة أماناً من جهته حين كان في منعة المسلمين. وقد بينا أن من يملك الأمان إذا أخبر عن من يملك الأمان فذلك أمان صحيح لهم. سواء كان الخبر صدقاً أم كذباً. إن كان صدقاً فمن جهة المخبر عنه وإن كان كذباً فمن جهة المخبر إلا أنه لا يثبت ذلك إلا بشهادة العدول من المسلمين لأنها تقوم لإبطال حقهم في الاستغنام. ولو أن رسول الأمير حين بلغ رسالة الأمير قال: إن فلاناً القائد قد أمنكم وأرسلني بذلك إليكم أو إن المسلمين على باب الأمير أمنوكم أو إني كنت قد أمنتكم قبل أن أدخل إليكم وناديتكم بذلك. وشهد على هذه المقالة قوم من المسلمين. فهم فيء أجمعون إذا كان ما أخبر به كذباً لأنه ليس برسول القائد حتى يجعل عبارته كعبارة القائد ولا هو رسول المسلمين على باب الأمير حتى تكون عبارته كعبارتهم ولا يملك هو أمانهم بنفسه في هذه الحالة لأنه في منعتهم فلهذا بطل حكم كلامه. ولو كان رجل من المسلمين أرسل في حاجته فقضى حاجته ثم أخبرهم أن من أرسله آمنهم. فهذا أيضاً باطل لأن رسول الواحد من عرض العسكر في مثل هذا لا يشبه رسول الأمير أو رسول جماعة المسلمين. فإن ذلك المرسل لو كان في هذا الموضع لا يصح أمانه فكذلك رسوله إذا أخبر عنه. وهذا هو القياس في رسول الأمير ورسول جماعة المسلمين أيضاً غير أنا استحسنا في هاتين الخصلتين لأن جماعة المسلمين من أهل المنعة حيث ما كانوا ورسولهم قائم مقامهم. فإذا أضاف الأمان إليهم كان صحيحاً وكذلك الأمير أمانه صحيح حيث يكون أميراً لأنه لا يكون أميراً إلا باعتبار المنعة. فلسان رسوله كلسانه في الإخبار بالأمان. وهذا لا يوجد في حق الواحد من عرض الناس فلهذا لا يعتبر إخبار رسوله إياهم بالأمان عنه. قال: ولو أن الأمير أرسل إليهم من يخبرهم أنه أمنهم ثم رجع إليه فأخبره أنه قد أتاهم برسالته فهم آمنون وإن كانوا لا يعلمون أن الرسول قد بلغهم لأن البناء على الظاهر واجب فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته. والظاهر أن الرسول بعدما يدخل عليهم لا يخرج حتى يؤدي الرسالة ولأن فيما يقوله الرسول احتمال الصدق وإن لم يترجح جانب الصدق. وبهذا القدر تثبت الشبهة وقد بينا أن الأمان يثبت في موضع الشبهة. فلا يجوز للمسلمين أن يغيروا عليهم حتى ينبذوا إليهم ولو كان الأمير والمسلمون أمنوهم ثم بعثوا رجلاً ينبذ إليهم ويخبرهم أنهم قد نقضوا العهد فرجع الرسول وذكر أنه قد أخبرهم بذلك. فليس ينبغي للمسلمين أن يغيروا عليهم حتى يعلموا ذلك لأنه أتاهم بخبر متميل بين الصدق والكذب وذلك لا يكون حجة تامة في نقض العهد وإن كان حجة في الأمان بمعنى وهو أن الذي يتعلق بنبذ الأمان إباحة السبي واستحلال الفرج والدماء. وهذا مما لا يثبت مع الشبهة. ومجرد الظاهر أو خبر الواحد لا ينفك عن الشبهة. فأما الذي يتعلق بالأمان حرمة السبي وذلك مما يثبت مع الشبهة ولأن ما يتعلق بنبذ الأمان إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه فلا يجوز أن يعتمد فيه بمجرد الظاهر وأما ما يتعلق بالأمان إذا وقع فيه غلط يمكن تداركه فيجوز الاعتماد فيه على الخبر الواحد إذا كان رسولاً. فإن أغار عليهم المسلمون قبل التثبت فقالوا: لم يبلغنا ما جاء به رسولكم فالقول قولهم لأنهم أنكروا نبذ الأمان وفيه تمسك بالأصل المعلوم فيرد عليهم المسلمون ما أخذوا من أموالهم ويغرمون ديات من قتلوا منهم لأنهم كانوا في أمان ما لم يعلموا بالنبذ فإن قيل: فليس في وسع الأمير فوق هذا. قلنا: لا كذلك بل في وسعه أن يرسل إليهم رسولاً ينبذ إليهم ويرسل لهم معه برجلين عدلين من أهل الشهادة حتى يشهد على تبليغه النبذ. فهذا أدنى ما تتم به الرسالة في النبذ. حتى لو أرسل إليهم رجلين فرجعا وشهد على تبليغ النبذ إليهم لم يجز ذلك لأن أحدهما شهد على فعل نفسه وذلك لا يكون حجة في الأحكام. ولا يقبل في مثل هذا إلا ما يكون حجة في الأحكام. ولو جاء رسول أميرهم بكتاب مختوم إلى أمير العسكر: إني قد ناقضتك العهد. فليس ينبغي للمسلمين أن يعجلوا حتى يعلموا حقيقة ذلك لأن الكتاب محتمل ولعله مفتعل. وإن كان الذي جاء بالكتاب رجلان من أهل الحرب فشهدا أن هذا الكتاب كتاب الملك وخاتمه جازت شهادتهما على أهل الحرب لأن الرسولين عندنا في أمان والقوم كذلك قبل أن يتم النبذ. وشهادة أهل الحرب على أمثالها من أهل دارهم حجة تامة. وبعد تمام النبذ بشهادتهم لا بأس بقتلهم واسترقاقهم. إلا أن يكون اللذان شهدا بالكتاب ممن لا تجوز شهادتهما منهم أو من أهل الذمة أو من المسلمين فحينئذ لا يحل للمسلمين أن يعجلوا بقتالهم لأن شهادة هؤلاء ليس بحجة في الأحكام. ونبذ الأمان لا يثبت بمثل هذه الشهادة. فينبغي للأمير أن يبعث إليهم رجلين عدلين ممن يثق به من المسلمين ليسألوهم عن ذلك. ألا ترى انهم لو أسروهم فجحدوا الكتاب وحلفوا أنهم ما كتبوه كان القول قولهم شرعاً ولا يبطل إنكارهم بشهادة من لا شهادة له. فلا بد من أن يبعث الأمير من تجوز شهادته حتى إذا أنكروا الكتاب شهدوا به عليهم. ولو أن الأمير بعث إليهم عشرة معهم كتاب فيه نقض العهد وقال للرجل المسلم: اقرأه عليهم. وقال للآخرين: اشهدوا عليهم بذلك. فاجتمع أميرهم مع القواد والبطارقة. فقرأ الرجل عليهم بالعربية وترجم الترجمان بلسانهم ثم رجع الرسل فأخبروا بما كان فلا بأس بأن يغير المسلمون عليهم لأنهم ليس في وسعهم فوق هذا والتكليف يثبت بحسب الوسع فيما يندرئ بالشبهات وفيما يثبت مع الشبهات. فإن أغاروا عليهم فقالوا: إن الترجمان لم يخبرنا بنقض العهد وإنما أخبرنا أن في الكتاب: قد زدناكم في مدة الأمان كذا فقولهم هذا باطل. لما بينا أنهم أتوا من قبل أنفسهم حين اختاروا للترجمة خائناً وليس في وسعنا أن نعلم حقيقة ما يخبرهم به الترجمان إلا أن يستقر عند المسلمين الذين حضروهم أن الترجمان قال لهم غير ما في الكتاب. فإن استيقن المسلمون بذلك فالقوم على أمانهم. أرأيت لو كان أهل الحرب الذين أمناهم لهم لغات مختلفة وكانوا قوماً من العرب لهم لغة فكلموهم بلغة غير لغتهم أو أعربوا في الكلام. فذكروا الغريب من اللغات فقالوا: لم تفهم اللغة أينبغي أن نصدقهم على هذا ونحن نعلم أنهم من أهل المعرفة باللغة لا نصدقهم على شيء من ذلك حتى نستيقن أنهم لم يفهموا. فإذا تيقنا بذلك فقد سقط اعتبار الظاهر باليقين وكانوا هم على الأمان. وكذلك إن كان أكبر الرأي منا أنهم لم يفهموا لأن أكبر الرأي بمنزلة اليقين فيما يبتنى على الاحتياط. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لو أن مسلماً جاء برجل من المشركين إلى الأمير وهم في المفازة وكانوا على حصن حاصروه وقال: إني كنت أمنت هذا. فأتاني على أماني إياه لم يصدق حتى يشهد شاهدان سواء أنه قدم أمنه لأنه صار فيئاً للمسلمين حين جاء به إلى الأمير فإنه غير ممتنع منهم. وهذا المسلم لا يتمكن من أن يؤمنه ابتداء فلا يصدق فيما يقر به من أمانه وفي القياس: للإمام أن يقتله إن شاء بمنزلة غيره من المأسورين. ولكن في الاستحسان: له أن يجعله فيئاً ولا يقتله لأن احتمال الصدق في خبره شبهة مانعة من إراقة الدم. وهذا لأن حرمة قتل المستأمن من حق الله تعالى وخبر الواحد فيما يرجع إلى أمر الدين حجة شرعاً وخصوصاً فيما لا يكون فيه إلزام على شخص بعينه وهو منكر لذلك الخبر. ولو أن مسلماً غير الذي جاء به شهد أنه أمنه. لم تقبل شهادته حتى يشهد عل ذلك رجلان مسلمان. واستدل بحديث الهرمزان فإن عمر رضي الله عنه قال له: تكلم لا بأس عليك أو تكلم بكلام حي. ثم اشتبه ذلك على عمر. فشهد له أنس ابن مالك. فأبى عمر أن يقبل ذلك حتى جاء معه رجل آخر فشهد بذلك فأمنه عمر. ففي هذا بيان أنه لا بد من شهادة رجلين إذا شهد على أمان غيرهما. لأن ذلك الغير منكر للأمان ولو كان مقراً به لم تكن شهادته حجة على فعل نفسه فلا بد من أن يشهد به شاهدان سواء حتى يثبت الأمان إلا في حق الرسول خاصة إذا علم المسلمون أنه قد أخبرهم بالأمان لأن المسلمين ائتمنوه على الرسالة. فإن ظهر منه خيانة فذلك على المسلمين. ألا ترى أن الإمام إذا ولى قاضياً أمر المسلمين فأخطأ في إقامة حد من رجم أو قطع في سرقة كان ذلك على بيت مال المسلمين. لأنهم ولوه ذلك على المسلمين فخطؤه عليهم M0ا السرية تؤمن أهل الحصن ثم تلحقها السرية الأخرى قال: ولو أن سرية صالحوا أهل حصن على خمسمائة دينار على أن يؤمنوهم حتى يخرجوا إلى دار الإسلام صح ذلك لأنهم لو أمنوهم بغير عوض إلى هذه الغاية جاز فمع العوض أجوز. لأن في الأمان تحريم القتل والاسترقاق وهو صحيح بعوض وبغير عوض. بمنزلة الصلح ظن القصاص. ولا بأس بأن يغيروا بعد هذا الصلح على غيرهم من أهل الحرب لأنهم خصوا بالأمان أهل الحصن. ودخل في أمانهم أمتعتهم ومواشيهم تبعاً لأنهم أمنوهم ليقيموا في حصنهم. فلا يجوز أن يعرضوا لشيء من أموالهم إلا ما كانوا أخذوه قبل الصلح وليس عليهم رد شيء من ذلك لأن المأخوذ صار غنيمة لهم وما أمنوهم ليردوا عليهم الغنائم إنما أمنوهم ليتركوا التعرض لأموالهم وقد خرج المأخوذ من أن يكون من جملة أموالهم. فإن مضت هذه السرية في أرض الحرب ودخلت سرية أخرى من المسلمين فلما انتهوا إلى الحصن أخبروهم بذلك الصلح وشهد على ذلك عدلان من المسلمين فليس ينبغي لهم أن يتعرضوا لأهل الحصن بشيء لأن عقد السرية الأولى نافذ في حق المسلمين كافة. قال عليه السلام: " المسلمون يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم يعقد عليهم أولاهم ويرد عليهم أقصاهم ". قيل: المراد بعقد أول السرايا: الأمان فنفذ ذلك على المسلمين. وإذا ثبت أن حكم هذه السرية حكم السرية الأولى وهم لو رجعوا إليهم لم يحل لهم أن يتعرضوا لأهل الحصن بشيء إلا أن ينبذوا إليهم برد الدنانير التي أخذها أصحابهم ثم ينبذوا إليهم ويقاتلوهم. وهذا لأنهم أعطوا الدنانير ليأمنوا إلى وقت خروج السرية الأولى من دار الحرب فما لم يخرجوا كانوا في أمان. ولو قاتلناهم من غير رد الدنانير كان في إضرار وغرور وهو حرام. وإن ردوا الدنانير فقاتلوهم حتى ظفروا بهم ثم التقواهم والسرية الأولى فهم شركاء في أموال أهل الحصن والدنانير التي أخذتها السرية الأولى لأن كل ذلك غنيمة. وقد اشتركوا في إحرازها بدار الإسلام. وذلك سبب الشركة بينهم فيها. إلا أن السرية الثانية إن كانوا غرموا الدنانير من أموالهم أخذوها من أموال أهل الحصن قبل القسمة لأنهم توصلوا إلى هذه الأموال برد تلك الدنانير وما كانوا متبرعين فيما أدوا منها وإنما كانوا متطرقين بها إلى الوصول إلى هذه الغنيمة فيكون حقهم في ذلك القدر مقدماً على حق الغانمين. ثم الباقي مقسوم بين الكل على سهام الغنيمة. فإن كانوا غرموها من غنيمة أصابوها لم يأخذوها لأن ما أدوا من جملة الغنيمة مشترك بينهم بمنزلة ما تواصلوا به إلى أخذه. وهو بمنزلة ما لو قضى بعض الورثة ديناً به رهن وهو من جملة التركة. فإن قضاء من مال نفسه رجع به من التركة وإن قضاء من التركة لم يرجع بشيء منه. وإن لم تلتق السريتان في دار الحرب سلمت للسرية الأولى الدنانير التي أخذوها وللسرية الثانية غنائمهم التي غنموا لأن كل فريق اختص بإحراز ذلك بدارنا وليس للسرية الثانية أن يأخذوا الدنانير من السرية الأولى وإن غرموها من أموالهم لأنهم اختصوا بمنفعة ما أدوا حين سلمت لهم غنائم أهل الحصن بخلاف الأول فقد اشتركت السريتان هناك في المنفعة وهو غنائم أهل الحصن مع أنه لا فرق. فهناك رجوعهم في غنائم أهل الحصن خاصة وهنا غنائم أهل الحصن سالمة لهم وإن لم تظفر السرية الثانية بالحصن فالتقوا مع السرية الأولى في دار الحرب لم يكن للسرية الثانية أن يأخذوا شيئاً من دنانيرهم من جملة ما أحرزوا بدارنا من الغنائم لأنه لا منفعة للسرية الأولى فيما ردوا من الدنانير حين لم يتوصلوا بها إلى غنائم أهل الحصن فكانوا متبرعين في حقهم بخلاف الأول. وهذا لأن الغنم مقابل بالغرم. فإذا ظهرت المنفعة لهم جميعاً بسبب ما ردوا من الدنانير نفذ الرد في حق الكل. وإذا لم تظهر المنفعة لا ينفذ ذلك في حق غير الذين ردوا. وإن كانت السرية الثانية غنمت من غير أموال أهل الحصن فأرادوا أخذ دنانيرهم من ذلك لم يكن لهم ذلك لأن هذه الغنائم كانوا يتوصلون إليها بدون رد الدنانير فلا يظهر حكم رد الدنانير في حقها كما لا يظهر في حق ما أصاب السرية الأولى بخلاف ما إذا غنموا من أهل الحصن فإن وصولهم إلى تلك الغنائم باعتبار رد الدنانير فيرفعون دنانيرهم منها قبل القسمة. وإن كان أهل الحصن أخبروا السرية الثانية بالأمان ولم يكن بينة على ذلك فمل يصدقوهم. ولكن قاتلوهم وظفروا بهم ثم علموا بعد ذلك بالأمان فعليهم رد ما أخذوا وضمان ما استهلكوا من أموالهم وديات من قتلوا منهم على عواقلهم لأنه ظهر أن القوم كانوا مستأمنين وأن نفوسهم وأموالهم كانت معصومة متقومة. فكل من قتل منهم رجلاً فإنما قتله خطأ فتجب الدية على عاقلته. بلغنا أن رجلين من المشركين جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستأمنين فأجازهما بحلتين ثم خرجا من عنده فلقيهما قومن من المسلمين فقتلوهما ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فعرفهما وعرف الحلتين فوداها بدية حرين مسلمين. هكذا ذكر محمد رحمه الله الحديث وفي كتب المغازي أن رجلين كانا من بني عامر قتلهما عمرو بن أمية الضمري حين انصرف من بئر معونة وقد فعل بنو عامر بأصحابه ما فعلوا. وكذلك لو كان أهل الحصن قالوا للسرية الأولى: أمنونا أنتم. فهذا والأول سواء لأنهم هم الذين يؤمنونهم سواء صرحوا بقولهم: أنتم أو لم يصرحوا. ولو قالوا: على أن لا تعرضوا أنتم لنا حتى تخرجوا إلى دار الإسلام. ففعلوا ذلك. ثم جاءت السرية الثانية فلهم أن يقاتلوا أهل الحصن من غير أن يردوا عليهم شيئاً لأنهم إنما استأمنوا منهم خاصة ليزيلوا تعرضهم عنهم. ومقصودهم من أداء الدنانير هنا أن تنصرف عنهم السرية التي أحاطت بهم وقد حصل هذا المقصود لهم بخلاف الأول. فهناك التمسوا أماناً عاماً إلى مدة معلومة. وكما أن الأمان يقبل التخصيص بالوقت يقبل التخصيص من حيث السرايا إلا أن عند الإطلاق موجب اللفظ العموم وعند التنصيص على ما يوجب الخصوص يثبت الحكم خاصة. ثم فرع على الأمان العام فقال: إن خرجت السرية الأولى قبل وصول الثانية إلى أهل الحصن ثم وصلوا إليهم فلهم أن يقاتلوا أهل الحصن من غير نبذ ورد الدنانير لأن الأمان كان لهم إلى غاية وهو خروج السرية الأولى إلى دار الإسلام. فانتهى الأمان بوجود الغاية. ألا ترى أن السرية الأولى لو عادوا إليهم بعد ما خرجوا كان لهم أن يقاتلوهم فكذلك السرية الثانية. ولو كان خرج بعضهم دون بعض فالمعتبر فيه خروج الأمير مع جماعة القوم الذين لهم المنعة لأن الباعث لأهل الحصن على التماس الصلح وأداء الدنانير خوفهم من السرية وذلك كان باعتبار جماعتهم ومنعتهم. وكان ينبغي في القياس على قول أبي حنيفة رضي الله عنه أنه وإن بقي واحد منهم في دار الحرب لا يحل قتالهم بدون رد الدنانير لأن الحكم إذا ثبت بجملة يبقى ببقاء الواحد كما قال في البلدة التي ارتد أهلها وبقي فيها مسلم أو ذمي آمن أنها لا تصير دار حرب. ولكن هذا القياس متروك هاهنا لأجل التعذر. أرأيت لو قتل رجل منهم أو مات أو أسر أو فقد ألم يحل قتال أهل الحصن أيضاً بعد خروج الجماعة ولو لم تخرج السرية الأولى ولكنهم قتلوا حل قتال أهل الحصن أيضاً. لأنهم إذا قتلوا فكأنهم خرجوا. يعني أن أهل الحصن يأمنون جانبهم إذا قتلوا فوق ما يأمنون جانبهم إذا خرجوا. وإن قتل منهم ناس وبقي ناس فالمعتبر هو المنعة كما في الخروج. فإن كان من بقي منهم لا منعة له فلا بأس بقتال أهل الحصن وإن كانوا أهل منعة لم يحل قتالهم ما لم يخرج هؤلاء إلى دارنا ولو كانوا صالحوهم على أن يؤمنوهم هذه السنة فهذا جائز لأنهم وقتوا الأمان بما هو معلوم يقيناً ولو وقتوه بما هو غير معلوم وهو خروجهم إلى دار الإسلام جاز ففيما هو معلوم أجوز. ثم لما عرفوا للسنة بالألف واللام ينصرف إلى السنة المعهودة التي هم فيها ومضيها انقضاء ذي الحجة حتى إذا كان الباقي منها شهراً فلهم ذلك خاصة. وإن قالوا: إنما صالحناكم على ما نحسب نحن عليه السنة لم يلتفت إلى ذلك لأن المسلمين هم الذين أعطوهم الأمان والمدة المذكورة تنصرف إلى ما يكون معلوماً عند المسلمين دون ما يكون معلوماً لهم. فإن المسلمين لا يعرفون ذلك. وقد أمرنا ببناء الأحكام على ما نعرفه. قال الله تعالى: إن قالوا: لنا سنة كاملة من وقت الصلح اثنا عشر شهراً لم يلتفت إلى ذلك لأنهم قالوا: هذه السنة واثنا عشر شهراً مدة سنة منكرة لا سنة معرفة. ألا ترى أنه لو قال: لله علي صوم سنة ينصرف نذره إلى سنة كاملة ولو قال: صوم السنة ينصرف إلى بقية السنة ومضيها انقضاء ذي الحجة. وإن قالوا: عنينا هذه السنة إلى انصرافكم من صائفتكم لم يلتفت إلى ذلك لأنهم ادعوا ما هو خلاف الظاهر. فإن الظاهر ما يسبق إلى الأفهام والذي يسبق إلى الأفهام من ذكر السنة المدة دون الانصراف إلا أن ذلك محتمل أيضاً. فإن بينوا في الصلح فهو على ما بينوا وإن قالوا: على أن تؤمنونا سنة فهذا على اثني عشر من وقت الصلح لأنهم ذكروا سنة منكرة وذلك اثنا عشر شهراً. قال الله تعالى: ولو قالوا: نصالحكم على أن تؤمنونا على ألف دينار ولم يوقتوا وقتاً فهذا على خروجهم إلى دار الإسلام لأن مطلق الكلام يتقيد بدلالة الحال وبما يعلم من مقصود المتكلم وبعد ما أحاطت بهم السرية يعلم أن مقصودهم بهذا الصلح الأمن من الخوف الذي نزل بهم وإنما يتم ذلك بخروج السرية إلى دار الإسلام. فكأنهم صرحوا بهذا وقالوا: أمنونا حتى تخرجوا إلى دار الإسلام. فإن خرجوا ثم عادوا هم أو غيرهم فلهم أن يقاتلوا أهل الحصن من غير رد الدنانير. ولكن لا ينبغي أن يقاتلوهم حتى ينبذوا إليهم لأن الأمان لهم مطلق. والمقصود الذي ذكرنا يرجع إلى ما أدوا من الدنانير. فباعتبار ذلك المقصود تتم سلامة الدنانير لهم إذا خرجوا وباعتبار كون الأمان مطلقاً لا يحل قتالهم ما لم ينبذوا إليهم كما لم أمنوهم بغير عوض بخلاف ما سبق: فهناك الأمان مؤقت نصاً فلا يبقى بعد مضي الوقت. ولو أن الإمام بعث إليهم من دار الإسلام من يدعوهم إلى الصلح فصالحوه على أن يؤمنوهم على مال مطلقاً. ثم بدا للإمام أن ينبذ إليهم فليس ينبغي أن يقاتلهم حتى يرد إليهم ما أخذوا منهم بخلاف الأول لأن هناك مقصودهم من بذل المال إزالة الخوف الذي حل بهم وهاهنا ما حل بهم خوف وإنما مقصودهم من بذل المال هاهنا تحصيل الأمن لهم مطلقاً حتى لا يتعرض أحد من المسلمين لجانبهم. والمطلق فيما يحتمل التأييد بمنزلة المصرح بذكر التأييد فكأنهم قالوا: أمنونا أبداً. فلهذا لا يحل قتالهم إلا بعد رد المال عليهم. فإن كانت السرية التي أحاطت بالحصن صالحوهم على أن يكفوا عنهم على ألف دينار ولم يزيدوا على هذا شيئاً فليس ينبغي لهم أن يتعرضوا لهم ما داموا في تلك الغزاة. ولا بأس بأن يغير عليهم غير تلك السرية من المسلمين وإن لم تخرج تلك السرية من دار الحرب لأنهم عند بذل المال شرطوا عليهم أن يكفوا عنهم. وهذا اللفظ يخصهم دون سائر المسلمين. ومن حيث المقصود يعلم أنهم أرادوا أن يأمنوا جانبهم وهذا المقصود يتم بخروجهم إلى دار الإسلام فيتم سلامة الدنانير لهم عند ذلك فإن عادوا إليهم بعد ذلك لم يكن عليهم رد الدنانير ولكن لا ينبغي لهم أن يغيروا عليهم حتى ينبذوا إليهم لأن بينهم وبين أهل الحصن أمان خاص ولكن مطلق غير مؤقت نصاً وقد قلنا: إن مثل هذا الأمان لو كان بينهم وبين جماعة المسلمين لم يحل قتالهم قبل النبذ إليهم للتحرز عن الغدر. فكذلك إذا كان بينهم وبين السرية حتى أغاروا عليهم من غير نبذ وأخذوا منهم مالاً ردوا عليهم ما أخذوا لأنهم كانوا في أمان منهم حتى ينبذ إليهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أحل لكم شيئاً من أموال المعاهدين ". ولو أن الخليفة بعث ثلاثة عساكر إلى دار الحرب. فبعث أهل حصن لم يأته المسلمون بعد إلى أمير عسكر من تلك العساكر أن أمنوا أهل حصن كذا - على أن تكفوا عنهم حتى ترجعوا من غزاتكم هذه - على ألف دينار. وتراضوا على هذا فليس للعسكرين الباقين ولا لغيرهم ممن يدخل من دار الإسلام أن يغيروا عليهم حتى ترجع العسكر الثلاثة إلى دار الإسلام لأن هذا الأمان نافذ في حق جماعة المسلمين. ولم يكن مقصود أهل الحصن بهذا أن يأمنوا جانب العسكر المبعوث إليهم خاصة فإنهم لم ينزلوا بساحتهم بعد بل خوفهم منهم ومن العسكرين الآخرين ومن جميع المسلمين بصفة واحدة فعرفنا أن مقصودهم من بذل المال إزالة هذا الخوف من أنفسهم إلى غاية وهو خروج العسكر وذلك إنما يحصل إذا علم الأمان كافة المسلمين فليس لأحد أن يغير عليهم إلا بعد النبذ ورد الدنانير. بخلاف ما إذا دنا العسكر المبعوث إليهم من الحصن حتى حاصروهم أو كانوا قريباً منهم فإن هناك مقصودهم الأمن من جانبهم خاصة لأنهم صاروا محصورين مقهورين من جهتهم. وقد بينا أن مطلق الكلام يتقيد بالمقصود فلهذا كان للعسكرين الباقيين أن يقاتلوهم من غير نبذ. ألا ترى أنه لو كان أمير الشام أو الخليفة أو ولي العهد مع أحد العساكر الثلاثة فأرسلوا إليه أن أمنونا على أن تكلفوا عنا حتى ترجعوا من غزاتكم ففعل أن ذلك على العساكر كلها وعلى جميع أهل الحرب أيضاً حين لم يذكروا أهل حصن خاصة. لأن اللفظ عام فيكون موجباً الحكم في كل ما يتناوله إلا أن يقوم دليل الخصوص بأن يبينوا فيقولوا: أمنوا أهل حصن كذا. ولو كان الخليفة مع عسكره أحاط بذلك الحصن فأمنهم والمسألة بحالها كان الأمان لهم خاصة من العسكر الذين أحاطوا بهم دون غيرهم فكذلك ما سبق. وكذلك لو كانوا بعثوا إلى أحد العساكر فقالوا: أمنونا أنتم خاصة. فهذا والأول سواء لأنهم هم الذين يؤمنونهم خاصة وإن لم يذكروا هذه الزيادة ولكن حكم أمانهم يثبت في حق المسلمين كافة. وإن قالوا: على أن تكفوا عنا أنتم خاصة وذلك قبل أن ينتهوا إليهم فهذا على ذلك العسكر خاصة. لوجود دليل للتخصيص. وكذلك إن كانوا قالوا للخليفة: أمنونا نحن خاصة. فالأمان لهم دون غيرهم من أهل الحرب. للتصريح بما يوجب التخصيص في الكلام. فإن لحق رجل من أهل هذا العسكر بغيره من العساكر فليس ينبغي له أن يقاتل معهم أهل الحصن لأنه استفادوا الأمان من جانب أهل ذلك العسكر خاصة وذلك حكم ثابت في حق كل واحد منهم على الانفراد. فكما لا يكون له أن يقاتلهم مع عسكره لا يكون لهم أن يقاتلهم مع عسكر آخر. ولو أن سرية حاصروا حصناً فسألهم أهل الحصن أن يؤمنوهم على أربعة أشهر على أن يعطوهم خمسمائة دينار ففعلوا ثم دخلت سرية أخرى في دار الحرب وعلموا بذلك ليس لهم يقاتلوهم حتى يردوا عليهم الدنانير أو ينتهي الأمان بمضي المدة. لنفوذ أمانهم على كافة المسلمين. فإن ردوا الدنانير من أموالهم فقاتلوهم وظفروا بهم ثم خرجوا بالغنائم إلى دار الإسلام بالدنانير التي أدوا فيعطون ذلك قبل الخمس وقبل كل قسمة لأنهم إنا توصلوا إلى هذه الغنائم بما أدوا فلا يكونون متبرعين فيما أدوا بل يكونون أحق بما أصابوا من الحصن حتى يأخذوا دنانيرهم. أرأيت لو وجدوا في الحصن تلك الدنانير بعينها ما كانوا أحق بها قبل الخمس والقسمة فكذلك إذا وجدوا في الحصن مثلها. وهو نظير المرهون إذا أسره العدو ثم اشتراه منهم مسلم فأخرجه وظفر به الراهن دون المرتهن فأخذه بالثمن فإنه يسقط دين المرتهن إلا أن يرد على الراهن ما أعطى من الثمن فحينئذ يأخذ العبد ويكون رهناً عنده لأن الراهن ما تمكن من أخذه وإحياء ملكه فيه إلا بما أدى فلم يكن متطوعاً. وكذلك العبد الموصى بخدمته لإنسان مدة معلومة وبرقبته لآخر فإن الموصى له بالخدمة إذا فداه بالثمن من المشتري من العدو فهو أحق به ولا يكون متبرعاً في هذا الفداء لأنه ما كان يصل إلى خدمته إلا به حتى إذا انقضت مدة الخدمة بيع العبد له في الفداء. إلا أن يرد عليه صاحب الرقبة مثل ما أدى فحينئذ يسلم العبد له. وكذلك المبيع في يد البائع إذا أسره العدو فاشتراه رجل منهم فللبائع أن يأخذه بالثمن ثم يقال لمشتري: إن شئت فخذه بالثمنين جميعاً وإن شئت فدع. لأن البائع ما كان يتوصل إلى إحياء حقه إلا بأداء الفداء فلا يكون هو متبرعاً فيما أدى فكذلك حال السرية الثانية فيما أدوا من الدنانير فيسلم لهم هذا قبل الخمس لأن الخمس في الغنيمة وما أدوا لم يكن من الغنيمة. فمثله المردود عليهم لا يكون من الغنيمة أيضاً ولكن بمنزلة النفل قبل الخمس على ما نبينه في آخر الباب. ولو لم يظفروا بالحصن وجعلوا يقاتلونهم حتى مضت أربعة أشهر ثم ظفروا بهم فليس لهم أن يأخذوا بتلك الدنانير ولا مثلها قبل الخمس بل يخمس جميع ما أصابوا والباقي بينهم على سهام الغنيمة لأن تمكنهم من اغتنام ما في هذا الحصن لم يكن برد الدنانير فإنهم لو لم يردوا حتى مضت مدة الأمان كان لهم أن يغيروا عليهم من غير نبذ بخلاف المسألة الأولى فإنهم ما كانوا يتمكنون من الاغتنام في المدة قبل رد الدنانير ولو فعلوا أمروا برد الأموال عليهم وإعادتهم إلى مأمنهم. ولو أنهم لم يخرجوا إلى دارنا حتى التقوا هم والسرية الأولى في دار الحرب فإن كانوا ظفروا بأهل الحصن بعد الأربعة الأشهر فهم شركاء فيما أصابوا وليس لهم من دنانيرهم شيء. ولو كانوا ظفروا بهم في الأربعة الأشهر أخذوا دنانيرهم أولاً ثم الشركة بينهم في الباقي لأنهم اشتكوا في الإحراز بدارنا وذلك سبب الشركة في الغنيمة. وقد بينا أنهم إذا كانوا ظفروا بهم بعد مضي المدة فجميع ما أصابوا غنيمة وإن كان قبل مضي المدة بعد رد الدنانير عليهم. وقد قررنا هذا في الخمس فكذلك في شركة السرية الأولى معهم. ولو أن السرية الثانية بعد رد الدنانير لم يقدروا فتح الحصن فدخلوا أرض الحرب ثم أتى أهل الحصن سرية ثالثة فلا بأس بأن يغيروا عليهم لأن حكم أمانهم قد بطل برد السرية الثانية الدنانير عليهم. ألا ترى أنه كان يجوز لهم أن يغيروا عليهم. فكذلك يجوز للسرية الثالثة. فإن ظفروا بهم في المدة أو بعدها ثم التقت السرايا في أرض الحرب. فهم شركاء في جميع الغنائم لأنهم اشتركوا في إحرازها. ولا سبيل للسرية الثانية على أخذ دنانيرهم وإن وجدوها بعينها لأنهم ما ظفروا بالحصن. فإن قيل: السرية الثالثة إنما تمكنوا من فتح الحصن في المدة برد تلك الدنانير فينبغي أن يكون للسرية الثانية حق استرداد ذلك قبل القسمة. قلنا: نعم ولكن لم يكن لأهل السرية الثانية ولاية على أهل السرية الثالثة. ألا ترى أنهم لو خرجوا إلى دار الإسلام قبل أن يلتقوا لم يكن لهم سبيل على شيء مما أصابوا. وملاقاتهم إياهم في دار الحرب سبب لثبوت حق الشركة لهم في الغنيمة لا في غيرها. فإن لم يجعل هذه الدنانير من الغنيمة فلا حق للسرية الثانية فيها. وإن جعلت من الغنيمة فليس لهم حق الاختصاص بشيء منها إلا أن يكون الإمام أو من كان أميراً على السرايا هو الذي أمر السرية الثانية برد الدنانير من أموالهم فحينئذ له ولاية على السرايا كلها. فالذين أدوا بأمره لا يكونون متبرعين في حق أحد. فإن ظفر السرية الثالثة بهم في المدة ردوا على السرية الثانية دنانيرهم أولاً لأنهم ما تمكنوا من هذا الاغتنام إلا بذلك. وإن ظفروا بهم بعد المدة فليس عليهم رد شيء من ذلك ولكن على الإمام أن يعطي الذين أدوا مالهم من بيت مال المسلمين لأنه أمرهم بأداء مال لأجل منفعة رجعت إلى المسلمين فكان ذلك ديناً لهم على بيت المال. ولأن خمس تلك الغنيمة سلم لبيت المال فيرد عليهم ما غرموا من مال بيت المال أيضاً ليكون الغرم بمقابلة الغنم. ولو لم يأت أهل الحصن سرية أخرى حتى رجعت إليهم السرية الأولى فردت عليهم الدنانير وظفروا بهم فلا سبيل عليهم على أخذ الدنانير من رأس الغنيمة لأنهم أخذوا مثل ما أرادوا وفسخوا حكم فعلهم بالرد. فكأنهم لم يأخذوا شيئاً في الابتداء حتى ظفروا بالحصن فيكون لجميع ما أصابوا حكم الغنيمة. وإن كان تلك الدنانير ضاعت منهم وحين رجعوا أعطوا إن كانوا ظفروا بهم في المدة لأن حالهم عند الرجوع ورد الدنانير كحال سرية أخرى. ولو أن الإمام وادع قوماً من أهل الحرب سنة على مال دفعوه إليه فذلك جائز إنما ينبغي له أن يوادع إذا كان خيراً للمسلمين. لما بينا أنه نصب ناظراً للمسلمين ولا يجوز له ترك القتال والميل إلى أخذ المال إلا أن يكون فيه نظر للمسلمين. ثم هذا المال ليس بفيء ولا غنيمة حتى لا يخمس ولكنه بمنزلة الخراج يوضع في بيت المال لأن الغنيمة اسم لمال مصاب بإيجاف الخيل والركاب والفيء اسم لما يرجع من أموالهم إلى أيدنا بطريق المراضاة فيكون بمنزلة الجزية والخراج يوضع في بيت مال المسلمين. لأن الإمام إنما تمكن منه لمنعة جماعة المسلمين. فإن نظر الإمام فرأى هذه الموادعة شراً للمسلمين فليس ينبغي له أن يقاتلهم حتى يرد عليهم ما أخذ لأن الوفاء بالعهد والتحرز عن الغدر واجب. فإن رد عليهم عينه أو مثله من بيت المال ونبذ إليهم ثم بعث جنداً حتى ظفروا بهم فإنه يخمس جميع ما أصابوا ويقسم الباقي بين الغانمين على سهام الغنيمة وليس له أن يرتجع شيئاً مما أعطي من الدنانير لأنه كان في الأخذ عاملاً للمسلمين. فقد ردها أو مثلها من مال المسلمين. فإن مال بيت المال معد لنوائب المسلمين وهذا كان من جملة النوائب. بخلاف ما ذكرنا في السرية الأولى إذا ردوا من أموالهم بعد ما ضاعت تلك الدنانير منهم. لأن هناك المأخوذ الذي ضاع منهم كان من جملة الغنيمة والمردود لم يكن من الغنيمة إنما كان من خاص أموالهم. وهاهنا المأخوذ كان لجماعة المسلمين والمردود أيضاً من مال جماعة المسلمين. فلهذا لا يرجع في شيء من ذلك. ثم عاد إلى مسألة السريتين فقال: لو أن السرية الثانية ردوا الدنانير بأمر أميرهم خاصة ثم أدركتهم سرية أخرى فافتتحت السريتان الحصن وأخذوا ما فيه فإنه يقسم المصاب على رءوس الرجال من السريتين أولاً ثم ينظر إلى ما أصاب السرية التي ردت الدنانير فيبدأ بدنانيرهم من ذلك لأن أمر أميرهم غير نافذ على السرية الثالثة وإنما ينفذ على أهل سريته خاصة. وأموال أهل الحصن مصاب السريتين جميعاً فلا بد من قسمتها بينهم ليتبين مصاب السرية الثالثة حتى يرفعوا دنانيرهم منها قبل القسمة. وإنما قسمت هذه الغنيمة على عدد الرءوس لأنها ليست بقسمة الغنيمة حتى يعتبر فيها سهام الفرسان والرجالة. ألا ترى أنها قبل الخمس وقسمة الغنيمة بعد الخمس فإذا دفعوا دنانيرهم يضم ما بقي إلى ما أصاب السرية الثالثة بالقسمة الأولى فيخمس جميع ذلك ثم يقسم الباقي بين السريتين على سهام الغنيمة. قال: وإنما مثل هذا مثل إمام بعث سريتين ونفل إحداهما بعينها الربع قبل الخمس. وهناك يقسم ما أصابوا أولاً على رءوس الرجال حتى يتبين نصيب المنفلين فيعطون نفلهم من ذلك ثم يضم ما بقي إلى ما أصاب السرية الأخرى فيخمس ويقسم ما بقي بينهم على سهام الغنيمة وهذا بخلاف ما سبق في أول الكتاب في مسألة المائة العصاة إذا كانوا بأعيانهم. فإن هناك القسمة بينهم وبين الثلاثمائة على سهام الخيل الرجالة في أصح الروايات حتى يتبين نصيب الثلاثمائة فيعطون من ذلك نفلهم لأن هناك إنما نفلهم الربع بعد الخمس والقسمة التي تكون بعد الخمس قسمة الغنيمة. وهذا إنما نفلهم الربع قبل الخمس. والقسمة الأولى هاهنا ليست بقسمة الغنيمة. فلهذا قسم على عدد رءوس الرجال. فإن كان ما أصاب السرية الرادة لم يرد على دنانيرهم سلم لهم جميع ذلك ويخمس ما أصاب السرية الآخرى ثم يقسم ما بقي بين السريتين جميعاً على الغنيمة لأن المغنوم هذا المقدار. وإن لم يف ما أصابهم بدنانير فكذلك الجواب لأنه لا أمر لأميرهم فيما أصاب السرية الثالثة ليأخذوا أشياء منها بحساب الدنانير. والله أعلم.
|